فصل: تفسير الآيات (39- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه ليست خصوصية في يوسف أو من عِنْدياته، ولكنها من علم تلقَّاه عن الله، وهو أمر يُعلِّمه الله لعباده المحسنين؛ فيكشف الله لهم بعضًا من الأسرار.
وهما السجينان يستطيعان أن يكونا مثله إنْ أحسنًا الإيمان بالله. ولذلك يتابع الحق سبحانه: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف: 37].
وكأنه بذلك يهديهما إلى الطريق الذي يجعلهما من المحسنين الذين يعطيهم الله بعضًا من هِبَات الخير، فيعلمون أشياء تَخْفى على غيرهم.
وهذا يدلُّنا على أن المؤمن إذا رأى في إنسان ما مَخِيلَة خير فَلْينمي هذه المخيلة فيه ليصل إلى خير أكبر؛ وبذلك لا يحتجز الخصوصية لنفسه حتى لا يقطع الأسوة الحسنة؛ ولكي يُطمِع العباد في تجليات الله عليهم وإشراقاته.
ولذلك أوضح يوسف عليه السلام للسجينين أنه ترك مِلَّة قوم لا يؤمنون بالله بما يليق الإيمان به سبحانه، ولا يؤمنون بالبعث والحساب ثوابًا بالجنة، أو عقابًا في النار.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام: {واتبعت مِلَّةَ...}.
وبذلك أوضح يوسف عليه السلام أنه ترك مِلَّة القوم الذين لا يعبدون الله حَقَّ عبادته، ولا يؤمنون بالآخرة، واتبع ملة آبائه إبراهيم ثم إسحق ثم يعقوب، وهم مَنْ أرسلهم الله لهداية الخلق إلى التوحيد، وإلى الإيمان بالآخرة ثوابًا بالجنة وعذابًا بالنار.
وذلك من فضل الله بإنزاله المنهج الهادي، وفضله سبحانه قد شمل آباء يوسف بشرف التبليغ عنه سبحانه؛ ولذلك ما كان لِمَنْ يعرف ذلك أنْ يشرك بالله، فالشرك بالله يعني اللجوء إلى آلهة متعددة.
يقول الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
فلو أن هناك آلهة غير الله سبحانه لصنع كلُّ إله شيئًا لا يقدر على صُنْعه الإله الآخر؛ ولأصبح الأمر صراعًا بين آلهة متنافرة.
ومن فضل الله هكذا أوضح يوسف عليه السلام أن أنزل منهجه على الأنبياء؛ ومنهم آباؤه إبراهيم وإسحق ويعقوب؛ لِيُبلغوا منهجه إلى خَلْقه، وهم لم يحبسوا هذا الفضل القادم من الله، بل أبلغوه للناس.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38].
وساعة تقرأ أو تسمع كلمة: {لاَ يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38] اعلم أن الأمر الذي أنت بصدده هو في مقاييس العقل والفطرة السليمة يستحق الشكر، ولا شُكْر إلا على النعمة.
ولو فَطِنَ الناس لَشكروا الأنبياء والرسل على المنهج الذي بلَّغوه عن الله؛ لأنه يهديهم إلى حُسْن إدارة الدنيا، وفوق ذلك يهديهم إلى الجنة. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}
أخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن جريج رضي الله عنه في قوله: {لا يأتيكما طعام ترزقانه} قال: كره العبارة لهما، فاجابهما بغير جوابهما ليريهما ان عنده علمًا، وكان الملك إذا أراد قتل انسان، صنع له طعامًا معلومًا فأرسل به إليه. فقال يوسف عليه السلام: {لا يأتيكما طعام ترزقانه} إلى قوله: {تشكرون} فلم يدعه صاحب الرؤيا حتى يعبر لهما فكرة العبارة، فقال: {يا صاحبي السجن أأرباب...} إلى قوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قال: فلم يدعاه فعبر لهما.
{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}
أخرج الترمذي وحسنه والحاكم وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام».
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم، عن أبي الأحوص رضي الله عنه قال: فاخر أسماء بن خارجة الفزاري رجلًا فقال: أنا من الأشياخ الكرام، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.
وأخرج الحاكم عن عمر رضي الله عنه؛ أنه استأذن عليه رجل فقال: استأذنوا لابن الأخيار، فقال عمر: ائذنوا له، فلما دخل قال: من أنت؟ قال: فلان ابن فلان ابن فلان، قعدّ رجالًا من أشراف الجاهلية، فقال له عمر رضي الله عنه: أنت يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم؟! قال: لا. قال: ذاك من الأخيار، وأنت في الأشرار، إنما تَعُدّ لي جبال أهل النار.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه كان يجعل الجد أبًا ويقول: من شاء لاعناه عند الحجر ما ذكر الله جدًا ولا جدة، قال الله إخبارًا عن يوسف عليه السلام: {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {ذلك من فضل الله علينا} قال: إن جعلنا أنبياء: {وعلى الناس} قال: إن جعلنا رسلًا إليهم.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ، عن قتادة رضي الله عنه: {ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس} قال: إن المؤمن ليشكر ما به من نعمة الله، ويشكر ما في الناس من نعمة الله، ذكر لنا أن أبا الدرداء رضي الله عنه كان يقول: يا ربّ شاكر نعمة غير منعم عليه لا يدري، ويا ربّ حامل فقه غير فقيه. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}
و{تُرْزَقانه} صفة ل: {طعام}. وقوله: {إلا نَبَّأْتُكما} استثناءُ مفرَّغ. وفي موضع الجملة بعده وجهان أحدُهما: أنها في محل نصبٍ على الحال، وساغ ذلك من النكرة لتخصُّصها بالوصف. والثاني: أن تكونَ في محل رفع نعتًا ثانيًا ل: {طعام}، والتقدير: لا يأتيكما طعامٌ مرزوقٌ إلا حال كونه منبِّئًا بتأويلهِ أو مُنَبَّأً بتأويله. و: {قبل} الظاهرُ أنها ظرفٌ ل: {نَبَّأْتكما}، ويجوز أن يتعلق ب: {تأويله}، أي: نَبَّأْتكما بتأويله الواقع قبل إتيانِه.
قوله: {إِنِّي تَرَكْتُ} يجوز أن تكونَ هذه مستأنفةً أخبر بذلك عن نفسه. ويجوز أن تكونَ تعليلًا لقوله: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي}، أي: تَرْكي عبادةَ غيرِ اللَّه سببٌ لتعليمه إياي ذلك، وعلى الوجهين لا محلَّ لها من الإِعراب. و: {لا يؤمنون} صفة ل: {قوم}. وكرَّر: {هم} في قوله: {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} قال الزمخشري: للدلالةِ على أنهم خصوصًا كافرون بالآخرة، وأن غيرَهم مؤمنون بها. قال الشيخ: وليست هم عندنا تدل على الخصوص. قلت: لم يَقُل الزمخشري إن هم تدل على الخصوص. وإنما قال تكرير هم للدلالة، فالتكرير هو الذي أفاد الخصوصَ، وهو معنىً حَسَنٌ فهمه أهلُ البيان. {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}
وسَكَّن الكوفيون الياء من: {آبائي}، ورُوِيَتْ عن أبي عمروٍ أيضًا. و: {إبراهيم} وما بعده بدلٌ أو عطفُ بيان، أو منصوب على المدح. اهـ.

.تفسير الآيات (39- 40):

قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أقام لهم الدليل على ما هو عليه من الدين الحنيفي تبعًا لخلاصة الخلق، بما تقرر في الأذهان من أن الله تعالى هو المنعم وحده سبحانه فيجب شكره، بعد أن قرر لهم أمر نبوته وأقام دليلها بما يخبرهم به من المغيبات، ودعاهم إلى ما يجب عليهم من التوحيد وهو الإسلام، وكان أكثر الخلق إلاّ الفذ النادر يقرون بالإله الحق، ولكنهم يشركون به بعض خلقه، أتبعه برهان التمانع على فساد كل ملة غير الإسلام الذي يطابق عليه الأنبياء والرسل كلهم، تأييدًا لأدلة النقل بقاطع العقل، فقال مناديًا لهما باسم الصحبة بالأداة التي تقال عند ما له وقع عظيم في النفوس في المكان الذي تخلص فيه والمودة، وتمحض فيه النصيحة، وتصفي فيه القلوب، ويتعمد الإخلاص رجاء الخلاص-: {ياصاحبي السجن} والصحبة: ملازمة اختصاص كأصحاب الشافعي مثلًا، لملازمة الاختصاص بمذهبه، وهي خلاف ملازمة الاتصال.
ولما فرغ أفهامهما بالنداء لما يلقيه، قرع أسماعهما بالإنكار مع التقرير فقال: {أرباب} أي آلهة: {متفرقون} متباينون بالذوات والحقائق تشاهدونهم محتاجين إلى المكان مع كونهم جمادًا، ولو كانوا أحياء لأمكن تمانعهم، فأدى إلى إمكان عجز كل منهم القاطع بعدم صلاحيته للإلهية: {خير} أي أعظم في صفة المدح وأولى بالطاعة: {أم الله} أي الملك الأعلى: {الواحد} بالذات، فهو لا يحتاج إلى شيء أصلًا: {القهار} لكل شيء، لا يزال قهره يتكرر أبدًا، فهذا برهان لا خطأ به كما ظن، وأبرزه صلى الله عليه وسلم على وجه الاستفهام استجلابًا للسامع برد العلم إليه، وسماها أربابًا لمثل ذلك بناء على زعمهم، وكذا المشاركة في أفعل التفضيل، لأن ذلك أقرب إلى الإنصاف، لكونه ألين في القول، فيكون أدعى إلى القبول.
ولما كان الجواب لكل من يعقل: الله خير، أشار إلى ذلك بجزم القول بعد ذلك الاستفهام في سلب صلاحيتهم قبل هذا الإمكان بعدم حياتهم، وعلى تقدير حياتهم بعجزهم، فقال: {ما تعبدون} والعبادة: خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع، وبين حقارة معبوداتهم وسفولها بقوله: {من دونه} أي الله الذي قام برهان التمانع- الذي هو البرهان الأعظم- على إلهية وعلى اختصاصه بذلك: {إلا أسماء} وبين ما يريد وأوضحه بقوله: {سميتموها} أي ذوات أوجدتم لها أسماء: {أنتم وآباؤكم} لا معاني لها، لأنه لا أرواح لها فضلًا عن أن تتحقق بمعنى ما سميتموها به من الإلهية، وإن كان لها أرواح فهي منتف عنها خاصة الإلهية، وهي الكمال المطلق الذي يستلزم إحاطة العلم والقدرة.
ولما كان مقصود السورة وصف الكتاب بالإبانة للهدى، وكان نفي الإنزال كافيًا في الإبانة، لأن عبادة الأصنام باطلة، ولم يكن في السياق كالأعراف مجادلة توجب مماحكة ومماطلة ومعالجة ومطاولة، قال نافيًا للإنزال بأي وصف كان: {ما أنزل الله} أي المحيط علمًا وقدرة.
فلا أمر لأحد معه: {بها} وأعرق في النفي فقال: {من سلطان} أي برهان تتسلط به على تعظيمها، فانتفى تعظيمها لذاتها أو لغيرها، وصار حاصل الدليل: لو كانوا أحياء يحكمون لم يصلحوا للإلهية، لإمكان تمانعهم المؤدي إلى إمكان عجز كل منهم الملزوم لأنهم لأ صلاحية فيهم للإلهية، لكنهم ليسوا أحياء، فهم أجدر بعدم الصلاحية، فعلم قطعًا أنه لا حكم لمقهور، وأن كل من يمكن أن يكون له ثان مقهور؛ فأنتج هذا قطعًا أن الحكم إنما هو لله الواحد القهار، وهو لم يحكم بتعظيمها؛ وذلك معنى قوله: {إن} أي ما: {الحكم إلاّ لله} أي المختص بصفات الكمال؛ والحكم: فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة.
ولما انتقى الحكم عن غيره، وكان ذلك كافيًا في وجوب توحيده، رغبة فيما عنده، ورهبة مما بيده، أتبعه تأكيدًا لذلك وإلزامًا به أنه حكم به، فقال: {أمر ألا تعبدوا} أي أيها الخلق في وقت من الأوقات على حال من الأحوال: {إلا إياه} أي وهو النافذ الأمر المطاع الحكم.
ولما قام هذا الدليل على هذا الوجه البين، كان جديرًا بالإشارة إلى فضله، فأشار إليه بأداة البعد، تنبيهًا على علو مقامه وعظيم شأنه فقال: {ذلك} أي الشأن الأعظم، وهو توحيده وإفراده عن خلقه: {الدين القيم} أي الذي لا عوج فيه فيأتيه الخلل من جهة عوجه، الظاهر أمره لمن كان له قلب: {ولكن أكثر الناس} أي لما لهم الاضطراب مع الحظوظ: {لا يعلمون} أي ليس لهم علم، لأنهم لا ينتفعون بعقولهم، فكأنهم في عداد البهائم العجم، فلأجل ذلك هم لا يفردون الله بالعبادة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قوله: {يَشْكُرُونَ ياصاحبى السجن} يريد صاحبي في السجن، ويحتمل أيضًا أنه لما حصلت مرافقتهما في السجن مدة قليلة أضيفا إليه وإذا كانت المرافقة القليلة كافية في كونه صاحبًا فمن عرف الله وأحبه طول عمره أولى بأن يبقى عليه اسم المؤمن العارف المحب.
المسألة الثانية:
اعلم أنه عليه السلام لما ادعى النبوة في الآية الأولى وكان إثبات النبوة مبنيًا على إثبات الإلهيات لا جرم شرع في هذه الآية في تقرير الإلهيات، ولما كان أكثر الخلق مقرين بوجود الإله العالم القادر وإنما الشأن في أنهم يتخذون أصنامًا على صورة الأرواح الفلكية ويعبدونها ويتوقعون حصول النفع والضر منها لا جرم كان سعي أكثر الأنبياء في المنع من عبادة الأوثان، فكان الأمر على هذا القانون في زمان يوسف عليه السلام، فلهذا السبب شرع هاهنا في ذكر ما يدل على فساد القول بعبادة الأصنام وذكر أنواعًا من الدلائل والحجج.
الحجة الأولى: قوله: {مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار مَا} وتقرير هذه الحجة أن نقول: إن الله تعالى بين أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا العالم وهو قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فكثرة الآلهة توجب الفساد والخلل، وكون الإله واحدًا يقتضي حصول النظام وحسن الترتيب فلما قرر هذا المعنى في سائر الآيات قال ههنا: {مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار مَا} والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار.
والحجة الثانية: أن هذه الأصنام معمولة لا عاملة ومقهورة لا قاهرة، فإن الإنسان إذا أراد كسرها وإبطالها قدر عليها فهي مقهورة لا تأثير لها، ولا يتوقع حصول منفعة ولا مضرة من جهتها وإله العالم فعال قهار قادر يقدر على إيصال الخيرات ودفع الشرور والآفات فكان المراد أن عبادة الآلهة المقهورة الذليلة خير أم عبادة الله الواحد القهار، فقوله: {ءأَرْبَابٌ} إشارة إلى الكثرة فجعل في مقابلته كونه تعالى واحدًا وقوله: {مُّتَّفَرّقُونَ} إشارة إلى كونها مختلفة في الكبر والصغر، واللون والشكل، وكل ذلك إنما حصل بسبب أن الناحت والصانع يجعله على تلك الصورة فقوله: {مُّتَّفَرّقُونَ} إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة وجعل في مقابلته كونه تعالى قهارًا فبهذا الطريق الذي شرحناه اشتملت هذه الآية على هذين النوعين الظاهرين.
والحجة الثالثة: أن كونه تعالى واحدًا يوجب عبادته، لأنه لو كان له ثان لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا ودفع الشرور والآفات عنا، فيقع الشك في أنا نعبد هذا أم ذاك، وفيه إشارة إلى ما يدل على فساد القول بعبادة الأوثان وذلك لأن بتقدير أن تحصل المساعدة على كونها نافعة ضارة إلا أنها كثيرة فحينئذ لا نعلم أن نفعنا ودفع الضرر عنا حصل من هذا الصنم أو من ذلك الآخر أو حصل بمشاركتهما ومعاونتهما، وحينئذ يقع الشك في أن المستحق للعبادة هو هذا أم ذاك أما إذا كان المعبود واحدًا ارتفع هذا الشك وحصل اليقين في أنه لا يستحق للعبادة إلا هو ولا معبود للمخلوقات والكائنات إلا هو، فهذا أيضًا وجه لطيف مستنبط من هذه الآية.